قال المناوي رحمه الله:" أي: أكثروا النّطق بها على مطابقة القلب، قبل أن يحال بينكم وبينها بالموت فلا تستطيعون الإتيان بها، وما للعمر إذا ذهب مسترجع، ولا للوقت إذا ضاع مستدرك ".
فيُوصِي النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين بالإكثار من الذّكر عموماً، وبقول "لا إله إلاّ الله" خصوصا؛ وذلك لسببين:
الأوّل: أنّها أعظم ما يُدّخر للآخرة، فكما يدّخر أهل الدّنيا الأموال لنوائب الدّهر فادّخروا (لا إله إلاّ الله) لليوم الآخر؛ فإنّها أنفع ما يُملك.
الثّاني: أنّ من اعتاد على شيء سهُل عليه ومات عليه، حتّى إذا جاءت سكرة الموت بالحقّ سهل على اللّسان التلفّظ بها، وفي الحديث الّذي رواه أبو داود وأحمد عن معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" دَخَلَ الجَنَّةَ )).
ولا بدّ من تعاهد هذه الكلمة؛ لأنّها شجرة طيّبة، والشّجرة إن لم يتعاهدْها العبدُ بالرّعاية والسّقيا ماتت حتّى تُجتَثَّ أصولُها من فوق الأرض، قال ابن القيّم رحمه الله في "أمثال القرآن":
" (فصل) ومنها قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم].
فشبّه سبحانه الكلمةَ الطيّبة بالشّجرة الطيّبة، لأنّ الكلمة الطيّبة تُثمِر العمل الصّالح، والشّجرة الطيّبة تثمر الثّمر النّافع ...
عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} قول: ( لا إله إلاّ الله ) في قلب المؤمن، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}: يُرفعُ بها عملُ المؤمن إلى السّماء .. فإنّه سبحانه شبّه شجرة التّوحيد في القلب بالشّجرة الطيّبة الثّابتة الأصل، الباسقة الفرع في السّماء علوّا، الّتي لا تزال تؤتي ثمرتها كلّ حين.
وإذا تأمّلت هذا التّشبيه، رأيته مطابقا لشجرة التّوحيد الثّابتة الرّاسخة في القلب، الّتي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السّماء.
ولا تزال هذه الشّجرة تُثمِر الأعمالَ الصّالحة كلّ وقتٍ بحسَبِ ثباتها في القلب، ومحبّة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقّها، ومراعاتها حقّ رعايتها .. وقال عطية العوفي: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيّب وعمل صالح يصعد إلى الله .."
حتّى قال وهو يعدّد أوجه الشّبه بين الشّجرة وكلمة التّوحيد:
"ومنها: أنّ الشّجرة لا تبقى حيّة إلاّ بمادّة تسقيها وتنمّيها، فإذا انقطع عنها السّقي، أوشك أن تيبَس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب، إن لم يتعاهدها صاحبُها بسقيِها كلّ وقت بالعمل النّافع والعمل الصّالِح، والعود بالتذكّر على التفكّر، والتفكّر على التذكّر، وإلاّ أوشك أن تيْبَسَ.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ الإِيمَانَ يَخْلُقُ فِي القَلْبِ كَمَا يَخْلُقُ الثَّوْبُ، فَجَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ )).
ومنها: أنّ الغرس والزّرع النّافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنّه لا بدّ أن يخالِطَه دغلٌ ونبت غريب ليس من جنسه، فإن تعاهده ربّه ونقّاه وقلّمه كمل الغرس والزّرع واستوى، وتَمّ نباتُه، وكان أوفرَ لثمرته، وأطيبَ وأزكَى، وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزّرع، ويكون الحكم له ..
فالمؤمن دائمٌ سعيُه في شيئين: سقي هذه الشّجرة، وتنقية ما حولها: فبسقْيِها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتمّ. والله المستعان، وعليه التّكلان.
فهذا بعض ما تضمّنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلّها قطرة من بحر .." اهـ كلامه رحمه الله.
الحديث الحادي عشر:
عنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِوَصِيَّةِ نُوحٍ اِبْنَهُ ؟))
قالُوا: بَلَى. قال:
(( أَوْصَى نُوحٌ عليه السّلام ابْنَهُ، فَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ ! إِنِّي أُوصِيكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، أُوصِيكَ بِقَوْلِ: " لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ " فَإِنَّهَا لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ، وَلَوْ كَانَتْ حَلْقَةً لَقَصَمَتْهُنَّ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَى اللهِ ..)) فذكر الحديث.
[رواه البزّار، ورواته محتجّ بهم في "الصّحيح"، إلاّ ابن إسحاق].
- شرح الحديث:
في هذا الحديث فوائد:
الأولى: فيه بيان ثقل كلمة (لا إله إلاّ الله) في الميزان، حتّى إنّها تثقل على السّموات وما فيها من كواكب وأجرام وشهب، والأرض وما فيها من جبال وبحار وغير ذلك.
الثّانية: فيه ذمّ لمن وقع في حبائل الشّرك بالله، حيث إنّه لم يعرف لهذه الكلمة حقّها، ويراعي فضلها، حتّى نقضَ ما هو أثقلُ من السّماوات والأرض !
الثّالثة: فيه بيانٌ لحرص الأنبياء والمرسلين على تذكير النّاس بتوحيد الله تعالى، وذلك من المهد إلى اللّحد.
ويدلّ على ذلك قوله عزّ وجلّ:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقال:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]..
وروى البخاري ومسلم أنّ عائشةَ وعَبدَ اللهِ بن عبّاسٍ رضي الله عنهما قالا:" لَمَّا نَزَلَ بِرسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فقالَ - وَهُوَ كَذَلِكَ -: (( لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا..
الرّابعة: كما أفاد الحديث ثقل (لا إله إلاّ الله) فقد بيّن أيضا قوّتها، وذلك من قوله:" ولو كانت حلْقة لقصمتهُنَّ " فلا شيءَ أكبرُ ولا أقوى من هذه الكلمة، ولذلك كان تحقيقها من أعظم أسباب النّصر، قال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران: من الآية151]، وقال عن إبراهيم عليه السّلام:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام].
الحديث الثّاني عشر:
وهو في النّسائي عن صالح بن سعيد، رفعه إلى سليمان بن يسار، إلى رجل من الأنصار لم يسمّه.
الحديث الثّالث عشر:
ورواه الحاكم عن عبد الله، وقال: " صحيح الإسناد "، ولفظه قال:
(( وَآمُرُكُمَا بِـ(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فِي الكِفَّةِ الأُخْرَى، كَانَتْ أَرْجَحَ مِنْهُمَا، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا كَانَتْ حَلْقَةً فَوُضِعَتْ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) عَلَيْهِمَا لَقَصَمَتْهُمَا، وَآمُرُكُمَا بِـ(سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ) فَإِنَّهَا صَلاَةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ شَيْءٍ )).
- شرح الحديث:
- قوله:" عن عبد الله ": قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله: " هو ابن عمرو بن العاص، ولقد كان على المصنّف أن يبيّنه حتّى لا يشتبه بالّذي قبله، فهما حديثان، ولذلك فصلت بينهما برقمين مختلفين ... ".
- قوله: ( وَآمُرُكُمَا ): هذا اللّفظ يقتضي أنّ وصيّته كان لولدين من أولاده.
وقد حمله بعض العلماء على اثنين من ثلاثة أولاد عاشوا معه اعتمادا على ما رواه التّرمذي عنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ )). وهو حديث ضعيف لا يصحّ.
والله أعلم.